فصل: باب الأنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَنْ قَالَ‏:‏ لا نِكَاحَ إِلا بِوَلِىٍّ

لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏ فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، وَقَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النِّكَاحَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ‏:‏ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا، ثم يَنْكِحُهَا‏.‏

وَالنِكَاحُ الآخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لامْرَأَتِهِ- إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا- أَرْسِلِى إِلَى فُلانٍ، فَاسْتَبْضِعِى مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلا يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا، إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِى نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاسْتِبْضَاعِ‏.‏

وَنِكَاحٌ آخَرُ، يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ، وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، فَتَقُولُ لَهُمْ‏:‏ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ وَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلانُ تُسَمِّى مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ‏.‏

وَالنِكَاحُ الرَّابِعِ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا، وجُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا الْقَافَةَ لَهُمُ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِى يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِىَ ابْنَهُ لا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، فِى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَاءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ الآية، قَالَتْ‏:‏ هَذَا فِى الْيَتِيمَةِ الَّتِى تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ شَرِيكَتَهُ فِى مَالِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهَا، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَنْكِحَهَا، فَيَعْضُلَهَا لِمَالِهَا، وَلا يُنْكِحَهَا غَيْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَشْرَكَهُ أَحَدٌ فِى مَالِهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَر، حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنِ ابْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ عليه السَّلام مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ تُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ‏:‏ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَقَالَ‏:‏ سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ، ثُمَّ لَقِيَنِى، فَقَالَ‏:‏ بَدَا لِى أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ‏:‏ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

- وفيه‏:‏ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فِى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ‏(‏أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ‏:‏ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِى مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ إنى زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لا وَاللَّهِ، لا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلا لا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ‏:‏ ‏(‏فَلا تَعْضُلُوهُنَّ ‏(‏، فَقُلْتُ‏:‏ الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ‏.‏

اتفق جمهور العلماء أنه لا يجوز نكاح إلا بولى إما مناسب أو وصى أو السلطان، ولا يجوز عقد المرأة على نفسها بحال، روى هذا عن عمر، وعلى، وابن عباس، وابن مسعود، وأبى هريرة، وروى عن شريح، وابن المسيب، والحسن، وابن أبى ليلى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى عبيد‏.‏

وحكى ابن المنذر، عن الشعبى، والزهرى أنه إذا تزوجت بغير إذن وليها كفئًا فهو جائز‏.‏

وقال مالك فى المعتقة والمسكينة التى لا خطب لها، فإنها تستخلف على نفسها من يزوجها، ويجوز ذلك، وكذلك المرأة يكفلها الرجل أن تزويجه عليها جائز، وأما كل امرأة لها قدر وغنى فلا يزوجها إلى الولى أو السلطان‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ إذا كانت بالغة عاقلة زالت ولاية الولى عنها، فإن عقدت بنفسها جاز، وإن ولت رجلاً حتى عقد جاز، ووافقنا على أنها إذا وضعت نفسها فى غير كفء كان للولى فسخ النكاح‏.‏

وشذ أهل الظاهر أيضًا، فقالوا‏:‏ إن كانت بكرًا فلابد من ولى، وإن كانت ثيبًا لم تحتج إلى ولى، وهذا خلاف الجماعة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والدليل على أنها لا تعقد على نفسها بحال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، والدلالة فى الآية من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الله عاتب معقلاً لما امتنع من رد أخته إلى زوجها، ولو كان لها أن تزوج نفسها أو تعقد النكاح لم يعاتب أخوها على الامتناع منه ولا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنث، فدل على أن النكاح كان إليه دونها‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعضلوهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، والعضل هو المنع من التزويج، فمنع الله الأولياء من الامتناع من تزويجهن كما منع أولياء اليتامى أن يعضلوهن إذا رغبوا فى أموالهن، فلو كان العقد إليهن لم يكن ممنوعات‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى هذا دليل على أن الرجل إذا عضل وليته وثبت عضله لها يفتئت عليه السلطان فيزوجها بغير أن يأمره بالعقد لها، ويرده عن العضل كما رد النبى، عليه السلام، معقلاً عن ذلك العقد، ولم يعقد النبى صلى الله عليه وسلم، بل دعاه إلى العقد بالحنث فى يمينه، إذ عقده لأخته على من تحبه خير من إبرار اليمين، وأيضًا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏، فلم يخاطب بالنكاح غير الرجال، ولو كان على النساء لذكرن فى ذلك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فى حديث حفصة حين تأيمت، وعقد عمر عليها النكاح ولم تعقده هى، إبطال قول من قال‏:‏ إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها، وعقد النكاح عليها دون وليها، ولو كان لها ذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة إلى نفسها، إذ كانت أولى بنفسها من أبيها، ولخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الأيم أحق بنفسها من وليها‏)‏، أى أن معنى ذلك أنها أحق بنفسها فى أنه لا ينعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها فى أن تعقد عليها عقدة نكاح دون وليها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه خلاف ما قلنا‏.‏

وقول عائشة‏:‏ إن النكاح كان على أربعة أنحاء، فنكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل ابنته أو وليته، حجة فى أن سنة عقد النكاح إلى الأولياء‏.‏

فإن قال من أجاز بغير ولى‏:‏ فقد روى عن عائشة خلاف هذا، وهو ما رواه مالك فى الموطأ أنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب، فلما قدم قال‏:‏ مثلى يفتأت عليها فى بناته‏؟‏ وهذا يدل أن مذهبها جواز النكاح بغير ولى‏.‏

قيل‏:‏ لا حجة لكم فى هذا الخبر، وليس معنى قوله‏:‏ زوجت بنت أخيها، إلا الخطبة، والكلام فى الرضا والصداق دون العقد، لما رواه ابن جريج، عن عبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبى بكر الصديق التيمى، عن أبيه، عن عائشة، أنها أنكحت رجلاً من بنى أخيها، فضربت بينهم بستر، ثم تكلمت حتى لم يبق إلا العقد، أمرت رجلاً فأنكح، ثم قالت‏:‏ ليس إلى النساء نكاح‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأما تفريق مالك بين المولاة والمسكينة، وبين من لها منهن قدر وغنى، فليس ذلك مما يجوز أن يفرق به، إذ قد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس جميعًا، فقال‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم‏)‏، فسوى بين الجميع فى الدماء، فوجب أن يكون حكمهم فيما دون الدماء سواء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، فإنه خاطب الأولياء ونهاهم عن إنكاح المشركين ولياتهم المسلمات من أجل أن الولد تابع للأب فى دينه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك يدعون إلى النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، ولا مدعو فى نفس الاعتبار يمكنه الإجابة إلا الولد، إذ هو تبع لأبيه فى الدين، ولذلك نهى الله عن إنكاح الإماء المشركات؛ لأن الذى يتزوجها يتسبب أن يولدها، فيبيعها سيدها حاملاً من مشرك، إذ أولاد الإماء تبع لأمهاتهم فى الرق فيئول ذلك إلى تمليك المشركين أولاد المسلمين فيحملونهم على الكفر، فنهى الله عن ذلك، وحرمه فى كتابه، وجوز لمن لم يستطع طولاً لحرة إذا خشى العنت أن ينكح الأمة المسلمة فى ملك المسلم لامتناع تمليكهن المشركين، وأباح له استرقاق ولده واستعباده لأخيه المسلم، من أجل أنه قد أمن أن يحمله على غير دين الإسلام‏.‏

والدليل على جواز إرقاق المسلم بنيه قول النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏وفى جنين المرأة غرة عبد أو وليدة‏)‏، فلما جعل عوض الجنين الحر عبدًا، وأقامه مقامه، وجوز لأبيه ملكه واسترقاقه عوضًا من أبيه، علمنا أن للرجل أن ينكح من النساء من يسترق ولده بها، والله أعلم‏.‏

باب إِذَا كَانَ الْوَلِىُّ هُوَ الْخَاطِبَ

وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَةً هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا، فَأَمَرَ رَجُلا فَزَوَّجَهُ، وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لأمِّ حَكِيمٍ ابْنَة قَارِظٍ‏:‏ أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَىَّ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ نَعَمْ، فَقَالَ‏:‏ قَدْ زَوَّجْتُكِ، وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ لِيُشْهِدْ أَنِّى قَدْ نَكَحْتُكِ، أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلا مِنْ عَشِيرَتِهَا‏.‏

وقال سَهْلٌ‏:‏ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَهَبُ لَكَ نَفْسِى، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، فِى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَاءِ‏}‏ الآية، قَالَتْ‏:‏ هِىَ الْيَتِيمَةُ، تَكُونُ فِى حَجْرِ الرَّجُلِ قَدْ شَرِكَتْهُ فِى مَالِهِ، فَيَرْغَبُ عَنْهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ، فَيَدْخُلَ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ، فَيَحْبِسُهَا، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلُ، جَاءَت امْرَأَةٌ إلى النَّبِىّ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَلَمْ يُرِدْهَا، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الولى هل يزوج نفسه من وليته إذا أذنت له وينعقد النكاح ولا يرفع ذلك إلى السلطان، فأجاز ذلك الحسن البصرى، وربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة، وأبو ثور‏.‏

وقال زفر والشافعى‏:‏ لا يجوز له أن يتزوجها إلا بالسلطان، أو يزوجها منه ولى لها هو أقعد بها منه أو مثله فى القعدد، واحتجوا أن الولاية من شرط العقد، وكما لا يكون الشاهد ناكحًا ولا منكحًا، كذلك لا يكون الناكح منكحًا‏.‏

وفيها قول ثالث، وهو أن يجعل أمرها إلى من يزوجها منه، وروى هذا عن المغيرة بن شعبة، وبه قال أحمد بن حنبل ذكره ابن المنذر، واحتج الطحاوى للقول الأول، فقال‏:‏ لا يختلفون أنه يجوز أن يهب لمن له ولاية عليها، ويكون هو العاقد والقابض، وكذلك النكاح، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم زوج المرأة من الرجل بما معه من القرآن، فكذلك كان له أن يزوجها من نفسه لو قبلها، كما فعل فى خبر صفية حين جعل عتقها صداقها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وكذلك فعل فى أمر جويرية، قضى كتابتها وتزوجها كما فعل فى حديث صفية سواء‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ومن الحجة لهذا القول أيضًا حديث عائشة فى الرجل تكون عنده اليتيمة فيرغب عن أن يتزوجها، فنهاهم الله عن عضلهن ومنعهن من التزويج من أجل أنهم لا يقسطون فى صدقاتهن، وجعل لهم أن ينكحوهن من أنفسهن إذا عدلوا فى صدقاتهن، وقد تقدم البيان عن هذه المسألة فى حديث صفية فى باب من أعتق جارية وتزوجها، وأما فعل المغيرة، فهو من باب الأدب فى النكاح أن يأمر الولى رجلآً يعقد نكاحه مع وليته، ولو تولى هو عقده إذا رضيت به لكان حسنًا‏.‏

باب إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ

لقوله‏:‏ ‏(‏وَاللائِى لَمْ يَحِضْنَ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ - فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهِىَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِىَ بِنْتُ تِسْع سِنِين، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ أجمع العلماء على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة التى لا يوطأ مثلها لعموم الآية‏:‏ ‏(‏واللائى لم يحضن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، ويجوز نكاح من لم تحض من أول ما تخلق، وأظن البخارى أراد بهذا الباب الرد على ابن شبرمة، فإن الطحاوى حكى عنه أنه قال‏:‏ تزويج الآباء على الصغار لا يجوز، ولهن الخيار إذا بلغن، وهذا قول لم يقل به أحد من الفقهاء غيره، ولا يلتفت إليه لشذوذه، ومخالفته دليل الكتاب والسنة، وإنما اختلفوا فى الأولياء غير الآباء إذا زوج الصغيرة، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى باب تزويج الصغار من الكبار قبل هذا‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ جواز نكاح لا وطء فيه لعلة بأحد الزوجين‏:‏ لصغر، أو آفة، أو غير إرب فى الجماع، بل لحسن العشرة والتعاون على الدهر، وكفاية المؤنة والخدمة بخلاف من قال‏:‏ لا يجوز نكاح لا وطء فيه، ويؤيد هذا فعل سودة حين وهبت يومها لعائشة، وقالت‏:‏ ما لى فى الرجال إرب‏.‏

واختلف العلماء فى الوقت الذى تدخل فيه المرأة على زوجها إذا اختلف الزوج وأهل المرأة فى ذلك، فقالت طائفة‏:‏ تدخل على زوجها وهى بنت تسع سنين اتباعًا لحديث عائشة، هذا قول أحمد بن حنبل، وأبى عبيد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ نأخذ بالتسع غير أنا نقول‏:‏ إن بلغتها ولم تقدر على الجماع كان لأهلها منعها، وإن لم تبلغ التسع وقويت على الرجال لم يكن لهم منعها من زوجها‏.‏

وكان مالك يقول‏:‏ لا نفقة لصغيرة حتى تدرك وتطيق الرجال‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا قاربت البلوغ وكانت جسيمة تحتمل الجماع، فلزوجها أن يدخل بها، وإن كانت لا تحتمل الجماع فلأهلها منعها من الزوج حتى تحتمل الجماع‏.‏

باب تَزْوِيجِ الأبِ ابْنَتَهُ مِنَ الإمَامِ

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ خَطَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَىَّ حَفْصَةَ فَأَنْكَحْتُهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهِىَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

معنى هذا الباب أن الإمام وإن كان وليًا، وكان النبى صلى الله عليه وسلم أفضل الأولياء، وخطب حفصة إلى أبيها عمر بن الخطاب، وأنكحه إياها، دل ذلك على أن الأب أولى من الإمام، وأن السلطان ولى من لا ولى له، وهذا إجماع، ودل أيضًا على صحة ما يقوله مالك، والشافعى، وجمهور العلماء أن الولى من شروط النكاح وأنه مفتقر إليه، وكذلك خطب النبى عائشة إلى أبى بكر، فقال له أبو بكر‏:‏ إنما أنا أخوك، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنت أخى فى دين الله وكتابه، وهى لى حلال‏)‏، فأنكحه أبو بكر إياها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفى إنكاح أبى بكر النبى صلى الله عليه وسلم دليل على إباحة النكاح بغير شهود، إذ لا نعلم فى شىء من الأخبار أن شاهدًا حضر عقد ذلك النكاح، والأخبار التى رويت عن عائشة وغيرها بخلاف ذلك واهية لا تثبت عند أهل المعرفة بالأخبار، وقد تقدم بيان هذه المسألة فى حديث صفية فى باب اتخاذ السرارى ومن أعتق جارية ثم تزوجها‏.‏

باب السُّلْطَانُ وَلِىٌّ

لِقَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْأن‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ سَهْلِ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ‏:‏ إِنِّى وَهَبْتُ لك نَفْسِى، فَقَامَتْ طَوِيلا، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا، بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

أجمع العلماء على أن السلطان ولى من لا ولى له، وأجمعوا أن السلطان يزوج المرأة إذا أرادت النكاح ودعت إلى كفء وامتنع الولى من أن يزوجها‏.‏

واختلفوا إذا غاب عن البكر أبوها وعمى خبره وضربت فيه الآجال من يزوجها‏؟‏ فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه‏:‏ يزوجها أخوها بإذنها‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يزوجها السلطان دون باقى أوليائها، وكذلك الثيب إذا غاب أقرب أوليائها‏.‏

وحجة مالك، والكوفيين أن الأخ عصبة يجوز أن يزوجها بإذنها مع عدم أبيها بالموت لتعذر التزويج من قبله، فكذلك مع حياته إذا تعذر التزويج من جهته، دليل ذلك إذا جن الأب أو فسق عندهم، ألا ترى أن الأب إذا مات كان الأخ أولى من السلطان‏؟‏ واحتج الشافعى بأن السلطان يستوفى لها حقوقها وينظر فى مالها إذا فقد أبوها، فلذلك هو أحق بالتزويج من أخيها‏.‏

واختلفوا فى الولى، فقال مالك، والليث، والثورى، والشافعى‏:‏ الأولياء هم العصبة الذين يرثون، وليس الخال ولا الجد لأم ولا الإخوة لأم أولياء عند مالك فى النكاح، وخالفهم محمد بن الحسن، فقال‏:‏ كل من لزمه اسم ولى، فهو ولى يعقد النكاح، وبه قال أبو ثور‏.‏

قال الأبهرى‏:‏ والحجة لمالك ومن وافقه فى أن ذوى الأرحام ليسوا أولياء فى النكاح وأن الأولياء فى ذلك العصبة، هو أن الولى لما كان مستحقًا بالتعصيب لم يكن للرحم مدخل فيه لعدم التعصيب، كذلك عقد النكاح؛ لأن ذلك بولاية التعصيب‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، دليل على أن الأولياء من العصبة؛ لأن معقلاً لما منع أخته من التزويج نزلت فيه هذه الآية، فتلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

واختلفوا من أولى بالنكاح الولى أو الوصى‏؟‏ فقال ربيعة، ومالك، والثورى، وأبو حنيفة‏:‏ الوصى أولى‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ الولى أولى به؛ لأنه لا ولاية للوصى على الصغير‏.‏

والحجة للقول الأول أن الأب لو جعل ذلك إلى رجل بعينه فى حياته لم يكن لسائر الأولياء الاعتراض عليه مع بقاء الأب، فكذلك بعد موته، إلا أن مالكًا قال‏:‏ لا يزوج الوصى اليتيمة قبل البلوغ، إلا أن يكون أبوها أوصى إليه أن يزوجها قبل البلوغ من رجل بعينه فيجوز، وينقطع عنها ما لها من المشورة عند بلوغها‏.‏

وذكر ابن القصار، قال‏:‏ ومن أصحابنا من قال‏:‏ إن الموصى إذا قال‏:‏ زوج بناتى ممن رأيت أنه يقوم مقام الأب فى تزويج الصغيرة، وفى تزويج البكر البالغ بغير إذنها، وهو يتخرج على مذهب مالك، وهو إذا قالت اليتيمة لوليها‏:‏ زوجنى ممن رأيت، فزوجها ممن اختار، أو من نفسه ولم يعلمها بعين الرجل قبل العقد، فإنه يلزمها ذلك‏.‏

باب لا يُنْكِحُ الأبُ وَغَيْرُهُ الْبِكْرَ وَلاَ الثَّيِّبَ إِلا بِرِضَاهَا

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ‏)‏، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْ تَسْكُتَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، ‏[‏أَنَّهَا قَالَتْ‏]‏‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِى، قَالَ‏:‏ ‏(‏رِضَاهَا صَمْتُهَا‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فى هذا الحديث النهى عن نكاح الثيب قبل الاستئمار، وعن نكاح البكر قبل الاستئذان، ودل هذا الحديث على أن البكر التى أمر باستئذانها البالغ، إذ لا معنى لاستئذان من لا إذن لها، ومن سكوتها وسخطها سواء‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة‏:‏ لا يجوز للأب أن ينكح البالغ من بناته بكرًا كانت أو ثيبًا إلا بإذنها، قالوا‏:‏ والأيم التى لا زوج لها، وقد تكون بكرًا وثيبًا، وظاهر هذا الحديث يقتضى أن تكون البكر لا ينكحها وليها أبًا كان أو غيره حتى يستأمرها، وذلك لا يكون إلا فى البوالغ لما دل عليه الحديث، ولتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وهى صغيرة‏.‏

وهذا قول الثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، وأصحابه، وأبى ثور، واحتجوا بهذا الحديث؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال قولاً عامًا‏:‏ ‏(‏لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر‏)‏، وكل من عقد نكاحًا على غير ما سنه النبى، عليه السلام، فهو باطل، ودل الحديث على أن البكر إذا نكحت قبل إذنها بالصمت أن النكاح باطل، كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ للأب أن يزوج البكر بغير إذنها صغيرة كانت أو كبيرة، ولا يزوج الثيب إلا بإذنها، وهو قول ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو قرة‏:‏ سألت مالكًا عن قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البكر تستأذن فى نفسها‏)‏، أيدخل فى هذا الأب‏؟‏ قال‏:‏ لا، لم يعن بهذا الأب إنما عنى به غير الأب‏.‏

وإنكاح الأب جائز على الصغار ولا خيار لواحدة منهن بعد البوغ‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ وقد ساوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب فى مشاورتهما فى أنفسهما، ولم يفرق بينهما إلا فى الجواب بالرضا، فإنه جعل جواب البكر بالرضا فى صماتها لاستحيائها، وجعل جوابها بالكراهة لذلك فى الكلام؛ لأنه لا حياء عليها فى كراهيتها كما يكون الحياء فى رضاها، ولم يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الثيب الرضا بالصمات حتى تتكلم بالرضا لمفارقتها فى الحياء حال البكر لما تقدم من نكاحها، والدليل على أن المراد باستئمار البكر غير ذات الأب ما روى أبو نعيم، قال‏:‏ حدثنا يونس بن أبى إسحاق، قال‏:‏ حدثنى أبو بردة بن أبى موسى، عن أبيه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تستأمر اليتيمة فى نفسها، فإن سكتت فهو إذنها‏)‏، ففرق بتسميته إياها يتيمة بينها وبين من لها أب‏.‏

فإذا كانت ثيبًا، فيلزم الأب مؤامرتها، ولا يجوز نكاحه عليها بغير إذنها‏.‏

وأما قول الكوفيين‏:‏ الأيم التى لا زوج لها وقد تكون بكرًا، فالجواب أن العرب وإن كانت تسمى كل من لا زوج لها أيمًا فهو على الاتساع وأصل الأيمة عدم الزوج بعد أن كان، لكن المراد بالأيم فى هذا الحديث الثيب، والدليل على ذلك أنه قد روى جماعة عن مالك‏:‏ ‏(‏والثيب أحق بنفسها من وليها‏)‏، مكان قوله‏:‏ ‏(‏الأيم أحق بنفسها‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏والبكر تستأذن‏)‏، فذكر البكر بعد ذكره الأيم، فدل أنها الثيب، ولو كانت الأيم فى هذا الحديث البكر لبطل الولى فى النكاح ولكانت كل بكر لا زوج لها أحق بنفسها من وليها، وكان هذا التأويل ردًا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، فخاطب بذلك الأولياء‏.‏

واختلفوا فى الثيب الصغيرة، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ يزوجها أبوها جبرًا كالبكر، وسواء أصيبت بنكاح أو زنا‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يزوجها إلا بإذنها، وسواء جومعت بنكاح أو زنا‏.‏

ووافقه أبو يوسف ومحمد إذا كان الوطء بزنا، واعتلوا بأنها إذا جربت الرجال كانت أعرف بحظها من الولى، فوجب أن يكون الأمر لها‏.‏

واحتج الأولون، فقالوا‏:‏ لما كانت محجورًا عليها فى مالها حجر الصغير جاز أن يجبرها على النكاح، وأيضًا فإنها قد ساوت البكر الصغيرة فى أنها لا يصح اختيارها، فلا معنى لاستئمارها‏.‏

باب إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِىَ كَارِهَةٌ فَنِكَاحُهُ مَرْدُودٌ

- فيه‏:‏ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهْىَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ النَّبِىّ عليه السَّلام فَرَدَّ نِكَاحَهُ‏.‏

اتفق أئمة الفتوى بالأمصار على أن الأب إذا زوج ابنته الثيب بغير رضاها أنه لا يجوز ويرد، واحتجوا بحديث خنساء، وشذ الحسن البصرى، والنخعى، فخالفا الجماعة، فقال الحسن‏:‏ نكاح الأب جائز على ابنته بكرًا كانت أو ثيبًا، كرهت أو لم تكره‏.‏

وقال النخعى‏:‏ إن كانت الابنة فى عياله زوجها ولم يستأمرها وإن لم تكن فى عياله وكانت نائية عنه استأمرها‏.‏

وإن لم يكن أحد من الأئمة مال إلى هذين القولين لمخالفتهما للسنة الثابتة فى خنساء وغيرها، وما خالف السنة فهو مردود‏.‏

واختلف الأئمة القائلون بحديث خنساء إن زوجها بغير إذنها، ثم بلغها فأجازت، فقال إسماعيل القاضى‏:‏ أصل قول مالك أنه لا يجوز إن أجازته إلا أن يكون بالقرب، كأنه فى فور واحد، ويبطل إذا بعد؛ لأن عقده عليها بغير أمرها ليس بعقد ولا يقع فيه طلاق‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ إذا أجازته جاز، وإذا أبطلته بطل‏.‏

وقال الشافعى، وأحمد، وأبو ثور‏:‏ إذا زوجها بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيت؛ لأن النبى، عليه السلام، رد نكاح خنساء ولم يقل إلا أن تجيزه‏.‏

باب تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏، قَالَتْ‏:‏ هى الْيَتِيمَةُ التِى تَكُونُ فِى حَجْرِ وَلِيِّهَا، فَيَرْغَبُ فِى جَمَالِهَا وَمَالِهَا، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِى إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ‏.‏

معنى هذا الباب أن الولى شرط فى النكاح؛ لمخاطبة الله الأولياء بإنكاح اليتامى إذا خافوا ألا يقسطوا فيهن، وقد تقدم هذا الحديث فى باب من قال‏:‏ لا نكاح إلا بولى، واحتج أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، بهذه الآية فى أنه يجوز للولى أن يزوج من نفسه اليتيمة التى لم تبلغ؛ لأن الله لما عاتب الأولياء أن يتزوجوهن إذا كن من أهل المال والجمال إلا على سنتهن من الصداق، وعاتبهم على ترك نكاحهن إذا كن قليلات المال والجمال استحال أن يكون ذلك منه تعالى فيمن لا يجوز نكاحه؛ لأنه لا يجوز أن يعاتب أحد على ترك ما هو حرام عليه، ألا ترى أنه أمر وليها أن يقسط لها فى صداقها، ولو أراد بذلك بالغًا لما كان لذكره أصل سنتها فى الصداق معنى، إذ كان له أن يراضيها على ما تشاء ثم يتزوجها على ذلك، فيكون ذلك له حلالاً كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طبن لكم عن شىء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏‏.‏

فثبت أن التى أمر أن يبلغ بها أعلى سنتها فى الصداق هى التى لا أمر لها فى صداقها المولى عليها، وهى غير بالغ، ولا يجوز عند مالك والشافعى وجماعة أن يتزوج اليتيمة التى لا أب لها قبل البلوغ، ويفسخ النكاح عند مالك قبل الدخول وبعده، وقد تقدم الاختلاف فى هذه المسألة فى باب تزويج الصغار‏.‏

وكان من حجة من خالف أبا حنيفة فى ذلك أنه قد يكون فى اليتامى من تجوز حد البلوغ وبعده وهى سفيهة، لا يجوز بيعها ولا شىء من أفعالها، فأمر تعالى أولياءهن بالإقساط لهن فى الصدقات، فلم تدل الآية على جواز نكاح اليتيمة غير البالغ كما زعم أبو حنيفة، وليس هذا أولى بالتأويل ممن عارضه، وتأويل الآية فى اليتيمة البالغ السفيهة‏.‏

باب إِذَا قَالَ الْخَاطِبُ لِلْوَلِىِّ‏:‏ زَوِّجْنِى فُلانَةَ، فَقَالَ‏:‏ قَدْ زَوَّجْتُكَ بِكَذَا وَكَذَا، جَازَ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الزَوج‏:‏ رَضيت أَوْ قَبِلت

- فيه‏:‏ سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا لِى الْيَوْمَ فِى النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ‏)‏، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا عِنْدَكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا عِنْدِى شَىْءٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَعْطِهَا، وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ‏)‏، قَالَ‏:‏ مَا عِنْدِى قَالَ‏:‏ ‏(‏فَمَا عِنْدَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَذَا وَكَذَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب إذا قال للولى زوجنى فلانة، فمكث ساعة، أو قال‏:‏ ما معك من القرآن‏؟‏ قال‏:‏ معى كذا وكذا، أو لبثا، ثم قال‏:‏ زوجتكها، فهو جائز‏.‏

قال المهلب‏:‏ بساط الكلام ومفهوم القصة أغنى فى هذا الحديث عن أن يوقف الخاطب على الرضا، وليس هذا فى كل نكاح، بل يجب أن يسأل الزوج أرضى بالصداق والشرط أم لا‏؟‏ إلا أن يكون مثل هذا المعسر الراغب فى النكاح، فلا يحتاج إلى توقيفه على الرضا لعلمهم به‏.‏

باب لا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَدَعَ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ عليه السَّلام أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ‏)‏، إلى قوله‏:‏ ‏(‏وَلا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ النهى فى هذا الحديث أن يخطب الرجل على خطبة أخيه نهى تحريم لا نهى تأديب، لما روى الليث، عن ابن أبى حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏المؤمن للمؤمن، لا يحل لمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه حتى يذر، ولا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ اختلف أهل العلم فى تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم‏:‏ نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه منسوخ بخطبته، عليه السلام، لأسامة فاطمة بنت قيس على خطبة معاوية وأبى الجهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هو حكم ثابت لم ينسخه شىء، وهو غير جائز لرجل خطبة امرأة قد خطبها غيره حتى يترك ذلك، هذا قول عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمر، وابن هرمز‏.‏

واحتجوا بعموم الحديث‏.‏

وقال آخرون‏:‏ نهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه يريد فى حال رضا المرأة به وركونها إليه‏.‏

وقد فسر مالك هذا الحديث فى الموطأ، فقال‏:‏ معنى النهى عن ذلك إذا كانت المرأة قد ركنت إليه واتفقا على صداق وتراضيا، فتلك التى نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يخطبها على خطبة أخيه، فأما إذا لم تركن إليه ولم يوافقها، فلا بأس أن يخطبها غيره‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وقول مالك هو عندنا وجه الحديث، وبه يقول أهل المدينة، وأهل العراق، أو أكثرهم، واحتج الشافعى والطحاوى بأن النبى، عليه السلام، أباح الخطبة لأسامة على خطبة معاوية وأبى جهم حين خطبا فاطمة بنت قيس، وكان بينًا أن الحالة التى خطب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة على أسامة غير الحال التى نهى عن الخطبة فيها حتى تصح معانى الآثار ولا تتضاد‏.‏

واختلف أصحاب مالك إذا أظهرت الرضا ولم يتفقا على صداق، فقال أكثرهم‏:‏ لا يخطبها؛ لأنه قد يكون نكاحًا ثابتًا إذا تم الرضا وإن لم يسم الصداق، وهو نكاح التفويض، إلا ابن نافع، فإنه قال‏:‏ لا بأس أن يخطبها ما لم يتفقا على صداق، والقول الأول أولى‏.‏

واختلف قول مالك وأصحابه إذا ركن إليها، ثم خطب عليه غيره وتزوجها، فروى عنه أنه يفسخ النكاح قبل الدخول، ولا يفسخ بعد الدخول وبئس ما صنع، وذكر عنه ابن المواز أنه يفسخ النكاح على كل حال، كما يفسخ البيع إذا ساوم على سومه، وهو قول أهل الظاهر، وروى عنه أنه لا يفسخ النكاح أصلاً، وهكذا روى سحنون عن ابن القاسم أنه لا يفسخ النكاح ولا البيع ويؤدب فاعله‏.‏

وقال الكوفيون والشافعى‏:‏ لا يفسخ، واحتج ابن القصار لقول مالك أنه يفسخ، فقال‏:‏ النهى يقتضى فساد المنهى عنه، وإذا كان إيقاع المنهى عنه فاسدًا لم تحصل به الاستباحة؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من أحدث فى أمرنا ما ليس منه فهو رد‏)‏، واحتج ابن حبيب لقوله‏:‏ إنه لا يفسخ، فقال‏:‏ ليس يشبه إذا اشترى على شراء أخيه؛ لأن ملك النكاح لا ينتقل بالركون خاصة، هكذا سمعت مطرفًا، وابن الماجشون يقولان‏:‏ وقال أصبغ، عن ابن القاسم مثله، وقد كان ابن نافع يرى فيه الفسخ قبل البناء وبعده وليس بشىء‏.‏

قال غيره‏:‏ والدليل على جواز النكاح أنه لم يملك بضعها بالركون دون العقد، ولا كانت له بذلك زوجة تجب بينهما الموارثة ويقع الطلاق‏.‏

وأما قولهم‏:‏ إن النهى يقتضى فساد المنهى عنه، فنقول‏:‏ العقد صحيح والمنهى عنه الخطبة خاصة ليس العقد كما لو فجر بها أو جردها عن ثيابها ثم نكحها‏.‏

وأما قوله‏:‏ إنه يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، فهو من باب إعادة الصلاة فى الوقت ليدرك العمل على كماله وسننه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ونهيه عليه السلام أن يخطب على خطبة أخيه المسلم يدل على إباحة أن ينكح على خطبة اليهودى والنصرانى؛ لأن الأمور كانت على الإباحة حتى نهى عن الخطبة على المسلم، فثبتت الإباحة على من ليس بمسلم؛ لأن المؤمنين إخوة‏.‏

باب تَفْسِيرِ تَرْكِ الْخِطْبَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر، أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ، لَقِى أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ له‏:‏ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِىّ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ‏:‏ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْته إِلا أَنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا‏.‏

إن قال قائل‏:‏ كيف ترجم البخارى لهذا الحديث تفسير ترك الخطبة، وقد تقدم من مذاهب العلماء أن الخطبة جائزة على خطبة غيره إذا لم تركن إليه، والنبى صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك أبا بكر لم يكن أعلم بهذا عمر فضلاً أن تركن إليه‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الترجمة صحيحة والمعنى الذى قصد البخارى معنى دقيق يدل على ثقوب ذهنه ورسوخه فى الاستنباط، وذلك أن أبا بكر علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خطب إلى عمر ابنته أنه لا يصرفه ولا يرغب عنه، بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه من مصاهرته له وامتزاجه به، فقام علم أبى بكر الصديق بهذه الحالة مكان الركون والتراضى منهما، فكذلك كل من علم أنه لا يصرف إذا خطب لا تنبغى الخطبة على خطبته حتى يترك كما فعل أبو بكر، رضى الله عنه‏.‏

باب الْخُطْبَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، جَاءَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَقَالَ النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الخطبة عند الحاجة من الأمر القديم المعمول به، وروى عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة‏:‏ الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يقرأ‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ الآية،‏)‏ اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏إلى‏)‏ عظيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 70، 71‏]‏،‏)‏ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما استحبت فى خطبة النساء خطبة من الكلام ليسهل بها الخاطب أمره ويرغب فيما دعا إليه، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم قد شبه حسن التواصل إلى الحاجة بحسن الكلام فيها، واستنزال المرغوب إليه بالبيان بالسحر، وإنما هذا من أجل ما فى النفوس من الأنفة فى أمر الوليات، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن حسن التواصل إلى هذا الذى تألف النفس منه حتى تحبب ذلك المستبشع وجه من وجوه السحر الحلال‏.‏

واستحب جمهور العلماء الخطبة فى النكاح، فقال مالك‏:‏ وهى من الأمر القديم وما قل منها فهو أفضل‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ كانوا يستحبون أن يحمد الله الخاطب ويصلى على نبيه ثم يخطب المرأة، ثم يجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك من حمد الله والصلاة على نبيه، ثم يذكر إجابته، وأوجبها أهل الظاهر فرضًا، واحتجوا بأن النبى صلى الله عليه وسلم خطب حين زوج فاطمة، وأفعاله على الوجوب‏.‏

واستدل الفقهاء على أنها غير واجبة بقوله‏:‏ ‏(‏قد زوجتكها بما معك من القرآن‏)‏، ولم يخطب، وبقوله‏:‏ ‏(‏كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع‏)‏، أى ناقص، ولم يقل‏:‏ إن العقد لا يتم لأنه زوج المرأة ولم يخطب‏.‏

باب ضَرْبِ الدُّفِّ فِى النِّكَاحِ وَالْوَلِيمَةِ

- فيه‏:‏ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، جَاءَ النَّبِىُّ عليه السَّلام فَدَخَلَ حِينَ بُنِىَ عَلَىَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّى، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِى يَوْمَ بَدْرٍ؛ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ‏:‏ وَفِينَا نَبِىٌّ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏دَعِى هَذِهِ، وَقُولِى بِالَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ السنة إعلان النكاح بالدف والغناء المباح؛ ليكون ذلك فرقًا بينه وبين السفاح الذى يستسر به‏.‏

وفيه‏:‏ إقبال العالم والإمام إلى العرس وإن كان فيه لعب ولهو ما لم يخرج اللهو عن المباحات فيه‏.‏

وفيه‏:‏ جواز مدح الرجل فى وجهه بما فيه، وإنما المكروه من ذلك مدحه بما ليس فيه‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏ وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏ وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وَقَالَ سَهْلٌ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ ابْن عَوْف تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ من ذهب، فَرَأَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَشَاشَةَ الْعُرْسِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ من ذهب‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ هذه الآيات دالة على وجوب المهر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ولا حد لأكثر المهر عند العلماء؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيتم إحداهن قنطارًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏، ذكر عبد الرزاق، عن قيس بن الربيع، عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن السلمى، قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ لا تغالوا فى صدقات النساء، فقالت امرأة‏:‏ ليس ذلك لك يا عمر، إن الله قال‏:‏ ‏(‏وآتيتم إحداهن قنطارًا ‏(‏، وكذلك فى قراءة عبد الله‏:‏ ولا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئًا، فقال‏:‏ إن امرأة خاصمت عمر فخصمته‏.‏

وروى ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمى، قال‏:‏ أصدق النبى صلى الله عليه وسلم كل امرأة من نسائه اثنتى عشرة أوقية ونشا، والنش نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ اثنتى عشرة أوقية، فذلك أربعمائة درهم وثمانون درهمًا‏.‏

وروى عن عمر بن الخطاب أنه أصدق أم كلثوم بنت على بن أبى طالب أربعين ألف درهم، وأن عمر أصدق صفية عشرة آلاف درهم، وعن ابن عباس وأنس مثله، وروى عن الحسن بن على أنه تزوج امرأة فأرسل إليها مائة جارية مع كل جارية ألف درهم‏.‏

واختلفوا فى مقدار أقل الصداق الذى لا يجوز النكاح بدونه، فقال مالك‏:‏ لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار وهو ثلاثة دراهم كيلاً، وذلك أدنى ما يجب فيه القطع‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم كيلاً قياسًا على ما تقطع فيه اليد عندهم‏.‏

وقال النخعى‏:‏ أقله أربعون ردهمًا‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ أقله خمسون درهمًا‏.‏

وقال ابن شبرمة‏:‏ خمسة دراهم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا حد فى أقل الصداق، ويجوز بما تراضوا عليه‏.‏

وروى هذا عن سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن يسار، والقاسم بن محمد، وسائر فقهاء التابعين بالمدينة‏:‏ ربيعة، وأبى الزناد، ويحيى بن سعيد، وابن أبى ذئب، ومن العراق ابن أبى ليلى، والحسن البصرى، وهو قول الثورى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال الأوزاعى‏:‏ كل نكاح وقع بدرهم فما فوقه لا ينقضه قاض‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ ما كان ثمنًا لشىء أو أجرة جاز أن يكون صداقًا، واحتجوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز النكاح بخاتم حديد، وأجاز ابن وهب النكاح بدرهم وبنصف درهم، وقال الدراوردى لمالك‏:‏ تعرقت فيها يا أبا عبد الله، يقول‏:‏ ذهبت فيها مذهب أهل العراق‏.‏

واحتج أصحاب مالك، والكوفيون بأن البضع عضو مستباح ببدل من المال، فلابد أن يكون مقدرًا، قياسًا على القطع، واحتجوا بأن الله لما شرط عدم الطول فى نكاح الإماء وأباحه لمن لم يجد طولاً، دل على أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس والدانق والقبضة من الشعير ونحوه طولاً لما عدمه أحد، والطول فى معنى الآية المال، ولا يقع عندهم اسم مال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفروج بالشىء التافه‏.‏

والنواة عند أهل اللغة‏:‏ زنة خمسة دراهم كيلاً، وأظن الذى قال‏:‏ إن أقل الصداق خمسة دراهم إنما أخذه من حديث النواة، وهذه غفلة شديدة؛ لأن زنة النواة ثلاثة مثاقيل ونصف من الذهب، فكيف يحتج بها من جعل أقل الصداق خمسة دراهم من فضة‏.‏

باب التَّزْوِيجِ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ

- فيه‏:‏ سَهْل، إِنّ امْرَأَةٌ، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَلَمْ يُجِبْهَا بشَىْء، ففعلت ذلك ثلاثًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْكِحْنِيهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ، فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ‏)‏، فَذَهَبَ فَطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ‏:‏ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَعِى سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهب قوم إلى أن النكاح على سورة من القرآن مسماة جائز، وقالوا‏:‏ معنى ذلك أن يعلمها تلك السورة، هذا قول الشافعى‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يكون تعليم القرآن مهرًا، هذا قول مالك، والليث، وأبى حنيفة، وأصحابه، والمزنى، إلا أن أبا حنيفة، قال‏:‏ إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز، وهو فى حكم من لم يسم لها مهرًا، فلها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏التمس شيئًا‏)‏، أو‏:‏ ‏(‏هل عندك شىء‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏قد زوجتكها بما معك من القرآن‏)‏، يدل أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن وسورة منه مهرًا؛ لأن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقًا؛ لأنه التمس الصداق بالإزار وخاتم الحديد ثم بتعليم القرآن‏.‏

قال‏:‏ ولا فائدة لذكر القرآن فى الصداق غير ذلك، واحتج عليه الطحاوى، فقال‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏قد زوجتكها بما معك من القرآن‏)‏، خاص للنبى صلى الله عليه وسلم لا يجوز لغيره، وذلك أن الله أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم ملك البضع بغير صداق، ولم يجعل ذلك لأحد غيره؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، فكان له عليه السلام مما خصه الله من ذلك أن يملك غيره ما كان له ملكه بغير صداق، فيكون ذلك خاصًا له كما قال الليث‏:‏ لا يجوز لأحد بعد النبى صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بالقرآن، والدليل على صحة ذلك أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد وهبت نفسى لك، فقام الرجل، فقال‏:‏ إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، ولم يذكر فى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاورها فى نفسها، ولا أنها قالت‏:‏ زوجنى منه، فدل أنه عليه السلام كان له أن يهبها بالهبة التى جاز له نكاحها‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد يحتمل أن يكون فى الحديث سؤال من النبى صلى الله عليه وسلم أن يزوجها منه، ولم ينقل فى الحديث‏.‏

قيل‏:‏ وكذلك يحتمل أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم جعل لها مهرًا غير السور، ولم ينقل فى الحديث، وليس أحد التأويلين أولى من صاحبه، ويحتمل وجهًا آخر أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم زوجها بما معه من القرآن لحرمته، وعلى وجه التعظيم للقرآن وأهله، لا على أنه مهر بدليل ما روى فى الحديث من قوله‏:‏ ‏(‏أتقرؤهن عن ظهر قلب‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏قد زوجتكها‏)‏، فراعى فيه حرمة القرآن، كما زوج النبى صلى الله عليه وسلم أبا طلحة أم سليم على إسلامه، ولم يكن إسلامه مهرًا لها فى الحقيقة، وإنما معنى تزويجها على إسلامه، أى أنه تزوجها لإسلامه‏.‏

قال غيره‏:‏ ويحتمل أن يريد بقوله‏:‏ ‏(‏ولو خاتمًا من حديد‏)‏، تعجيل شىء يقدمه من الصداق، وإن كان قليلاً كقوله‏:‏ ‏(‏بعها ولو بضفير‏)‏، والدليل على أنه أراد تعجيل شىء من الصداق أنه كان يجوز أن يزوجه على مهر يكون فى ذمته، وكان من عادتهم أن يقدموا شيئًا من الصداق؛ لأنه لم تجر عادتهم فى وقته، عليه السلام، فى المهور إلا بالشىء الثقيل، وإذا احتمل هذا كله لم يجعل أصلاً فى استباحة الفروج بالشىء الحقير الذى لا يعدمه أحد ولا بمهر مجهول‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والدليل على أنه لم يتزوجها على أن يعلمها السورة عوضًا من بضعها، أنا رأينا النكاح إذا وقع على مهر مجهول لم يثبت المهر، ورد حكم المرأة إلى حكم من لم يسم لها مهر، فاحتيج المهر أن يكون معلومًا كما تكون الأثمان فى البياعات معلومة، وكما تكون الأجرة فى الإجارات معلومة، وكان الأصل المجتمع عليه لو أن رجلاً استأجر رجلاً على أن يعلمه سورة من القرآن سماها بدرهم أن ذلك لا يجوز، وكذلك إذا استأجره على أن يعلمه شعرًا بعينه بدرهم لم يجز؛ لأن الإجارات لا تجوز إلا على أحد معنيين، إما على عمل بعينه مثل غسل ثوب بعينه أو خياطته، وإما على وقت معلوم، لابد أن يكون الوقت معلومًا كما يكون العمل معلومًا، وكان إذا استأجره على تعليم سورة، فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلمه، وقد يتعلم بقليل التعليم وكثيره، وفى قليل الأوقات وكثيرها، وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعانى التى ذكرناها فى الإجارات، وإذا كان التعليم لا تملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر ألا تملك به الأبضاع، والله الموفق‏.‏

باب الشُّرُوطِ فِى النِّكَاحِ

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ‏.‏

وقال الْمِسْوَرُ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام وَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِى مُصَاهَرَتِهِ، فَأَحْسَنَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِى، فَصَدَقَنِى، وَوَعَدَنِى فَوَفَانِى‏.‏

- فيه‏:‏ عُقْبَةَ بْن عامر، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنَ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الرجل يتزوج المرأة ويشرط لها ألا يخرجها من دارها، ولا يتزوج عليها ولا يتسرى وشبه ذلك من الشروط المباحة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ فقالت طائفة‏:‏ يلزمه الوفاء بما شرط من ذلك‏.‏

ذكر عبد الرزاق، وابن المسيب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلاً شرط لزوجته ألا يخرجها، فقال عمر‏:‏ لها شرطها‏.‏

وقال‏:‏ المسلمون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم‏.‏

وقال عمرو بن العاص‏:‏ أرى أن تفى لها بشرطها‏.‏

وروى مثله طاوس، وجابر بن زيد، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق؛ لقول عمر‏:‏ مقاطع الحقوق عند الشروط، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج‏)‏، وحملوا الحديث على الوجوب‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يلزمه شىء من هذه الشروط‏.‏

روى ابن وهب، عن الليث، عن عمرو ابن الحارث، عن كثير بن فرقد، عن ابن السباق، أن رجلاً تزوج امرأة على عهد عمر، وشرط لها ألا يخرجها من دارها، فوضع عنه عمر بن الخطاب الشرط، وقال‏:‏ المرأة مع زوجها‏.‏

وعن على بن أبى طالب مثله، وقال‏:‏ شرط الله قبل شروطهم، ولم يره شيئًا‏.‏

وممن هذا مذهبه عطاء، والشعبى، وسعيد بن المسيب، والحسن، والنخعى، وابن سيرين، وربيعة، وأبو الزناد، وقتادة، والزهرى، وهو قول مالك، والليث، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقال عطاء‏:‏ إذا شرطت أنك لا تنكح ولا تتسرى ولا تذهب ولا تخرج بها، يبطل الشرط إذا نكحها‏.‏

وحملوا حديث عقبة على الندب، واستدلوا على ذلك بقوله عليه السلام فى صهره‏:‏ ‏(‏حدثنى فصدقنى، ووعدنى فوفى لى‏)‏، قالوا‏:‏ وإنما استحق المدح؛ لأنه وفى له متبرعًا ومتطوعًا لا فيما لزمه الوفاء به على سبيل الفرض‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وأصح ذلك قول من أبطل الشرط وأثبت النكاح، لقوله عليه السلام فى قصة بريرة‏:‏ ‏(‏كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فأجاز البيع وأبطل الشرط، فلما أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشروط ما ليس فى كتاب الله، كان من اشترط شروطًا خلاف كتاب الله أولى أن تبطل‏.‏

من ذلك أن الله أباح للرجال أن ينكحوا أربعًا، وأباح للرجل وطء ما ملكت يمينه؛ لقوله‏:‏ ‏(‏إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 6‏]‏، فإذا شرطت عليه الزوجة تحريم ما أحل الله له بطل الشرط وثبت النكاح‏.‏

ولما كان للمرء إذا عقد نكاح امرأة أن ينقلها حيث يصلح أن تنقل إليه مثلها، ويسافر بها، كان اشتراطها عليه كارهًا غير أحكام المسلمين فى أزواجهم، وذلك غير لازم للزوج، فأما معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج‏)‏، فيحتمل أن تكون المهور التى أجمع أهل العلم أن على للزوج الوفاء بها، ويحتمل أن يكون ما شرط على الناكح فى عقد النكاح مما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وإذا احتمل الحديث معان كان ما وافق ظاهر كتاب الله وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، وقد أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس فى كتاب الله، وهذا أولى معنييه‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فإن كان فى شىء من هذه الشروط ليس بطلاق أو عتق وجب عليه ولزمه عند مالك والكوفيين، وعند كل من يرى الطلاق قبل النكاح بشرط النكاح لازمًا، وكذلك العتق، وهو قول عطاء، والنخعى، والجمهور‏.‏

قال النخعى‏:‏ كل شرط فى نكاح فالنكاح يهدمه إلا الطلاق، ولا يلزم شىء من هذه الأيمان عند الشافعى؛ لأنه لا يرى الطلاق قبل النكاح لازمًا ولا العتق قبل الملك، واحتج بقوله‏:‏ ‏(‏كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل‏)‏، ومعناه ليس فى حكم الله وحكم رسوله لزوم هذه الشروط لإباحة الله تعالى أربعًا من الحرائر وإباحته ما شاء بملك اليمين، وإباحته أن يخرج بامرأته حيث شاء، فكل شرط يحظر المباح فهو باطل‏.‏

باب الشُّرُوطِ الَّتِى لا تَحِلُّ فِى النِّكَاحِ

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ لا تَشْتَرِطِ الْمَرْأَةُ طَلاقَ أُخْتِهَا‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلاقَ أُخْتِهَا؛ لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا‏)‏‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ لم يبلغ العلماء بالشروط المكروهة إلى التحريم، وحملوا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تسأل المرأة طلاق أختها‏)‏، على الندب، لا إن فعل ذلك فاعل يكون النكاح مفسوخًا، وإنما هو استحسان من العمل به، وفضل فى ترك ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ أجاز مالك، والكوفيون، والشافعى، أن يتزوج المرأة على أن يطلق زوجته، وقالوا‏:‏ إن تزوجها على ألف وأن يطلق زوجته، فعند الكوفيين النكاح جائز، فإن وفى بما قال فلا شىء عليه غير الألف، وإن لم يف أكمل لها مهر مثلها‏.‏

وقال ربيعة، ومالك، والثورى‏:‏ لها ما سمى لها وفى أو لم يف‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لها مهر المثل وفى أو لم يف‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فإن قيل‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها‏)‏، على ما ثبت فى هذا الباب يدل أن رواية من روى‏:‏ ‏(‏لا تسأل المرأة طلاق أختها‏)‏، يراد به التحريم والتحتم، وليس معناه الندب كما قال ابن حبيب، وأن الطلاق إذا وقع بذلك غير لازم‏.‏

قيل له‏:‏ ليس كما توهمت، وليس إعلامه عليه السلام لنا تحريم ذلك على المرأة بموجب أن الطلاق إذا وقع غير لازم، وإنما فيه النهى للمرأة والتغليظ عليها ألا تسأل طلاق أختها، ولترض بما قسم الله لها، وليس سؤالها ذلك بزائد فى رزقها شيئًا لم يقدر لها‏.‏

ودل نهيه عليه السلام المرأة عن اشتراطها طلاق أختها أن الطلاق إذا وقع بذلك ماض جائز، ولئن لم يكن ماضيًا لم يكن لنهيه عليه السلام عن ذلك معنى، وكان اشتراطها ذلك كلا اشتراطها، وقد تقدم فى كتاب الشروط، فى باب الشروط فى الطلاق شىء فى هذا المعنى‏.‏

باب الصُّفْرَةِ لِلْمُتَزَوِّجِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ ابْن عَوْف جَاءَ إِلَى النَّبِىّ عليه السَّلام وَبِهِ صُفْرَةٍ، فَسَأَلَهُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏كَمْ سُقْتَ إِلَيْهَا‏؟‏‏)‏، قَالَ‏:‏ وَزْن نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ‏)‏‏.‏

وفى الباب حديث أنس‏:‏ أولم النبى، عليه السلام، بزينب وأوسع المسلمين خبزًا‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وليس يتعلق بشىء من الترجمة، وفى رواية النسفى‏:‏ فيه باب قال المهلب‏:‏ اختلف لفظ حديث أنس فى ذكر الصفرة، فروى‏:‏ وبه أثر الصفرة‏.‏

وروى‏:‏ وبه وضر صفرة‏.‏

وروى‏:‏ فرأى النبى صلى الله عليه وسلم بشاشة العروس فسأله‏.‏

وقد روى حماد بن سلمة، عن ثابت البنانى وحميد، عن أنس، فقالا فيه‏:‏ وبه ردع من زعفران، فعلم أن تلك الصفرة مما التصق بجسمه من الثياب المزعفرة التى تلبسها العروس‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقيل‏:‏ إن من كان ينكح فى أول الإسلام كان يلبس ثوبًا مصبوغًا بصفرة علامة العرس والسرور، ألا ترى قوله فى هذا الحديث‏:‏ فرأى النبى صلى الله عليه وسلم بشاشة العروس، ذكره فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏، وقيل‏:‏ إنما كان يلبسها ليعينه الناس على وليمته ومؤنته، وقد قال ابن عباس‏:‏ أحسن الألوان كلها الصفرة؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صفراء فاقع لونها تسر الناظرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 69‏]‏، فقرن السرور بالصفرة، وكان عليه السلام يحب الصفرة، ألا ترى قول ابن عمر حين سئل عن صبغه بها، فقال‏:‏ إنى رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، فأنا أصبغ بها وأحبها، وسيأتى من أحب الصفرة ومن كرهها من العلماء فى كتاب اللباس، إن شاء الله‏.‏

وهذا الحديث يدل أن نهيه عليه السلام الرجال عن المزعفر ليس على وجه التحريم، وإنما ذلك فى وجه دون وجه‏.‏

باب كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام رَأَى عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ أَثَرَ صُفْرَةٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا هَذَا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ‏)‏‏.‏

وإنما أراد بهذا الباب، والله أعلم، رد قول العامة عند العروس‏:‏ بالرفاء والبنين على ما كانت تقول الجاهلية عند ذلك، وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقال ذلك للمتزوج من حديث عقيل بن أبى طالب، ذكره أبو عبيد والطبرى‏.‏

فأدخل فى هذا الباب دعاء النبى، عليه السلام، بالبركة للمتزوج، وحديث عقيل رواه أشعث، عن الحسن، عن عقيل بن أبى طالب، أنه تزوج امرأة من بنى جشم، فقالوا‏:‏ بالرفاء والبنين، فقال‏:‏ لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لهم وعليهم‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل، وقد حدث به عن الحسن غير الأشعث، فلم يرفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والذى أختار من الدعاء ما صحت به الرواية عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ إذا رفأ الرجل بتزويج قال‏:‏ بارك الله لك وبارك عليك، ورواه الدراوردى، عن سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، وغير محظور الزيادة على ذلك‏.‏

باب الدُّعَاءِ لِلنِّسْوَةِ اللاتِى يَهْدِينَ الْعَرُوسَ وَلِلْعَرُوسِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَتْنِى أُمِّى، فَأَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأنْصَارِ فِى الْبَيْتِ، فَقُلْنَ‏:‏ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد روى هذا الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم من رواية ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل، قال‏:‏ شهد النبى صلى الله عليه وسلم إملاك رجل من الأنصار، فقال‏:‏ ‏(‏على الألفة والخير والطير الميمون والسعة فى الرزق، بارك الله لكم‏)‏‏.‏

وروى يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، قال‏:‏ دعوت يونس بن يزيد إلى عرسى فسمعته يقول‏:‏ سمعت ابن شهاب فى عرس لصاحبه يقول‏:‏ بالجد الأسعد والطائر الأيمن‏.‏

وزوج ابن عمر بنته سودة من عروة بن الزبير، فقال‏:‏ قد زوجتكها، جمع الله ألفتكما على طاعته وطاعة رسوله‏.‏

باب مَنْ أَحَبَّ الْبِنَاءَ قَبْلَ الْغَزْوِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ‏:‏ لا يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا، وَلَمْ يَبْنِ بِهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ تمام الحديث‏:‏ ‏(‏أو رجل بنى دارًا ولم يسكنها‏)‏‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ وجوب استثبات البصائر فى الغزو والحض على جمع الكلمة والنيات؛ لأن الكلمة إذا اجتمعت واختلفت النيات كان ذريعة إلى اختلاف ذات البين، وقد جعل الله الخذلان فى الاختلاف، وجعل الاعتصام فى الجماعة، فقال‏:‏ ‏(‏واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏، فلما كان قلب الرجل معلقًا بابتنائه بأهله أو ببنيان يخشى فساده قبل تمامه أو يحب الرجوع إليه ولم يوثق بثباته عند الحرب فقطعت الذريعة فى ذلك‏.‏

باب الْبِنَاءِ فِى السَّفَرِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثًا يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لَحْمٍ، أَمَرَ بِالأنْطَاعِ، فَأُلْقِىَ فِيهَا مِنَ التَّمْرِ وَالأقِطِ وَالسَّمْنِ، فَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ‏:‏ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ إِنْ حَجَبَهَا فَهِىَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِىَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه جواز البناء فى السفر كما ترجم‏.‏

وفيه‏:‏ جواز بقاء المسافرين على العالم والسلطان اليومين والثلاثة، وليس ذلك من الحابس ظلمًا لهم ولا قطعًا بهم عن سفرهم؛ لأن الثلاثة الأيام سفر وما زاد فهو حضر، فإن حبس الرئيس جنده أكثر من ثلاثة فى حاجة عرضت له خشى عليه الإثم والحرج‏.‏

وفيه‏:‏ أن البقاء مع الثيب عند اليناء بها ثلاثًا سنة مؤكدة فى السفر والحضر من أجل حبس النبى، عليه السلام، الجيش ثلاثة أيام ليأتى على الناس علم ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ جواز إبطال الاشتغال لإجابة الدعوة وإقامة سنة النكاح؛ لأنهم أبطلوا سفرهم لإقامة ابتناء النبى صلى الله عليه وسلم، وكذلك يلزم أهل المتزوج وإخوانه عونه على نكاحه، وإن قطع ذلك بهم عن بعض أشغالهم، وفيه الحكم بالدليل‏.‏

باب الْبِنَاءِ بِالنَّهَارِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ وَلا نِيرَان

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ عليه السَّلام فَأَتَتْنِى أُمِّى، فَأَدْخَلَتْنِى الدَّارَ، فَلَمْ يَرُعْنِى إِلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضُحًى‏.‏

السنة فى النكاح الإعلان، وكلما زاد الإعلان بمركب واجتماع أو نيران فهو أتم، وإلا فالإعلان كاف فى ذلك، وقد ذكر فى هذا الحديث اجتماع فى غير هذا الطريق اجتماع نساء الأنصار عند إدخالها بيتها ودعائهن لها بالبركة وعلى خير طائر، والمراد من اجتماع النساء الإعلان بالنكاح، وقد يجوز أن يبتنى الرجل بأهله بغير إعلان إذا كان النكاح قبل ذلك معروفًا، قاله المهلب‏.‏

باب الأنْمَاطِ وَنَحْوِهَا لِلنِّسَاءِ

- فيه‏:‏ جَابِر، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏هَلِ اتَّخَذْتُمْ أَنْمَاطًا‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَّى لَنَا أَنْمَاطٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا سَتَكُونُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من علامات النبوة؛ لأنه عليه السلام أخبر بما يكون فكان‏.‏

وفيه‏:‏ جواز اتخاذ شورة البيوت للنساء‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن الشورة للمرأة دون الرجل، وأنها عليها فى المعروف من أمر الناس القديم؛ لأن النبى، عليه السلام، إنما قال ذلك لجابر؛ لأن أباه ترك سبع بنات، فقام عليهن جابر وشورهن بعد أبيه وزوجهن‏.‏

باب النِّسْوَةِ اللاتِى يَهْدِينَ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَدُعَائِهِنَّ بِالْبَرَكَةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ النِّبِىُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا عَائِشَةُ، مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ‏؟‏ فَإِنَّ الأنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ‏)‏‏.‏

اتفق العلماء على جواز اللهو فى وليمة النكاح، مثل ضرب الدف وشبهه ما لم يكن محرمًا، وخصت الوليمة بذلك ليظهر النكاح وينتشر فتثبت حقوقه وحرمته‏.‏

قال مالك‏:‏ لا بأس بالدف والكبر فى الوليمة؛ لأنى أراه خفيفًا، ولا ينبغى ذلك فى غير العرس، وقد سئل مالك عن اللهو يكون فيه البوق، فقال‏:‏ إن كان كبيرًا مشهرًا فإنى أكرهه، وإن كان خفيفًا فلا بأس بذلك‏.‏

قال أصبغ‏:‏ ولا يجوز الغناء فى العرس ولا فى غيره إلا مثلما فعل نساء الأنصار أو رجز خفيف مثلما كان من جواب الأنصار، وسأذكر اختلاف العلماء فى اللهو واللعب فى الوليمة فى باب هل يرجع إذا رأى منكرًا فى الدعوة بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

باب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ عليه السَّلام إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بِزَيْنَبَ، فَقَالَتْ لِى أُمُّ سُلَيْمٍ‏:‏ لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً، فَقُلْتُ لَهَا‏:‏ افْعَلِى، فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِى بُرْمَةٍ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِى إِلَيْهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لِى‏:‏ ‏(‏ضَعْهَا‏)‏، ثُمَّ أَمَرَنِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ادْعُ لِى رِجَالا- سَمَّاهُمْ- وَادْعُ لِى مَنْ لَقِيتَ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَفَعَلْتُ الَّذِى أَمَرَنِى فَرَجَعْتُ، فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ، وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُ لَهُمُ‏:‏ ‏(‏اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِيهِ‏)‏، قَالَ‏:‏ حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا، فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ، وَبَقِىَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ، قَالَ‏:‏ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ الْحُجُرَاتِ، وَخَرَجْتُ فِى إِثْرِهِ، فَقُلْتُ‏:‏ إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا، فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَإِنِّى لَفِى الْحُجْرَةِ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ الآية‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الهدية للعروس من أجل أنه مشغول بأهله ومانع لها عن تهيئة الطعام واستعماله، فلذلك استحب أن يهدى لهم طعام من أجل اشتغالهم عنه بأول اللقاء كما كان هذا المعنى فى الجنائز لاشتغالهم بالحزن حتى كان ذلك الطعام يسمى تعزية‏.‏

وفيه‏:‏ أن من سنة العروس إذا فضل له طعام أن يدعو له من خف عليه من إخوانه، فيكون زيادة فى الإعلان بالنكاح وسببًا إلى صالح دعاء الآكلين ورجاء البركة بأكلهم‏.‏

وفيه‏:‏ من أعلام النبوة، وهو أكل القوم الكثير من الطعام القليل‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا بأس بالصبر على الأذى من الصديق والجار والمعرفة، والاستحياء منه لاسيما إذا لم يقصد الأذى، وإنما كان عن جهل أو غفلة، فهذا أولى أن يستحيى منه لذلك‏.‏

باب اسْتِعَارَةِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا لِلْعَرُوسِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً، فَهَلَكَتْ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِى طَلَبِهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما استدل البخارى، والله أعلم، على جواز استعارة الثياب للعروس لاستعارة عائشة القلادة من أسماء لتتزين بها للنبى صلى الله عليه وسلم فى سفره، فكأن استعارة الثياب للعروس لتتزين بها إلى زوجها أولى، ويحتمل أن تكون عائشة ذلك الوقت قريبة عهد بعرس‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ جواز السفر بالعارية وإخراجها إذا أذن فى ذلك صاحبها، أو يعلم أنه يسمح بمثل هذا‏.‏

وفيه‏:‏ النهى عن إضاعة المال‏.‏

وفيه‏:‏ حبس المسافرين لحاجة تخص الرئيس والعالم‏.‏

وفيه‏:‏ استخدام الرئيس والسيد لأصحابه فيما يهمه شأنه؛ لأن أسيد بن حضير وغيره خرجا فى طلب القلادة‏.‏

باب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قال النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِى أَهْلَهُ‏:‏ بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِى الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِى ذَلِكَ، أَوْ قُضِىَ وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن الدعاء يصرف البلاء ويعتصم به من نزعات الشيطان وأذاه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإذا قال ذلك عند جماع أهله كان قد اتبع سنة النبى صلى الله عليه وسلم، ورجونا له دوام الألفة، وينبغى أن يفعل ذلك عند إتيانه مملوكته مثل الذى ينبغى أن يفعله عند إتيانه زوجته، إذ يمكن أن يحدث بينهما ولد‏.‏

قال المهلب‏:‏ واختلف العلماء فى هذا الضرر المدفوع بهذا الدعاء من الشيطان ما هو‏؟‏ فقال قوم‏:‏ إنه الطعن الذى يطعن الشيطان المولود عند الولادة الذى عصم منه عيسى، عليه السلام، فطعن شيطانه فى الحجاب لما استعاذت منه أمه‏.‏

وقيل‏:‏ هو ألا يصرع ذلك المولود الذى يذكر اسم الله عليه ويستعاذ من الشيطان عند جماع أمه، وكلا الوجهين جائز، والله أعلم بالأولى منهما، ولا يجوز أن يكون الضرر الذى يكفاه من الشيطان كل ما يجوز أن يكون من الشيطان، فلو عصم أحد من ضرر الشيطان لعصم منه النبى، عليه السلام، وقد اعترض عليه فى الصلاة والقراءة‏.‏

باب الْوَلِيمَةُ حَقٌّ

وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ‏:‏ قَالَ لِى النَّبِىُّ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ فَقْدَمَ النَّبِىّ عليه السَّلام الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أُمَّهَاتِى يُوَاظِبْنَنِى عَلَى خِدْمَةِ النَّبِىِّ عليه السَّلام فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّىَ النَّبِىُّ عليه السَّلام وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الْحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِى مُبْتَنَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا عَرُوسًا، فَدَعَا الْقَوْمَ فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الوليمة حق‏)‏، يعنى أن الزوج يندب إليها وتجب عليه وجوب سنة وفضيلة، ولا أعلم أحدًا أوجبها فرضًا، وإنما هى على قدر الإمكان والوجود لإعلان النكاح، وفى حديث أنس فى الباب الذى بعد هذا أنه عليه السلام أولم على زينب بشاة، وفى حديث آخر عن أنس أنه، عليه السلام، أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا فى وليمة زينب‏.‏

وقد روى مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال‏:‏ لقد بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يولم بالوليمة ما فيها خبز ولا لحم، وهذه الوليمة كانت على صفية بنت حيى فى السفر مرجعه من خيبر، قيل لأنس‏:‏ فبأى شىء أولم‏؟‏ قال‏:‏ بسويق وتمر‏.‏

باب الْوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَن عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ نزل عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، لما نزل فَقَالَ‏:‏ أُقَاسِمُكَ مَالِى، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَىَّ، قَالَ‏:‏ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِى أَهْلِكَ وَمَالِكَ، فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ، فَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَتَزَوَّجَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، مَا أَوْلَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَىْءٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أَوْلَمَ بِشَاةٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس‏:‏ أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، بَنَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ، فَأَرْسَلَنِى، فَدَعَوْتُ رِجَالا إِلَى الطَّعَامِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ اختلاف فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الولائم المختلفة يدل على ما ذكرناه فى الباب قبل هذا أنها إنما تجب على قدر اليسار والوجود فى الوقت، وليس قوله لعبد الرحمن‏:‏ ‏(‏أولم ولو بشاة‏)‏ منعًا لما دون ذلك، وإنما جعل الشاة غاية فى التقليل لعبد الرحمن ليساره وغناه، وأنها مما يستطيع عليها ولا يجحفه، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أولم على صفية وليمة حيس ليس فيها خبز ولا لحم، وأولم على غيرها بمدين من شعير، ولو وجد حينئذ شاة لأولم بها؛ لأنه كان أجود الناس وأكرمهم‏.‏

وفى حديث عبد الرحمن بن عوف استحباب الذبح فى الولائم لمن وجد ذلك‏.‏

وفيه أن الوليمة قد تكون بعد البناء؛ لأن قول النبى صلى الله عليه وسلم له‏:‏ ‏(‏أولم ولو بشاة‏)‏، كان بعد البناء، وإنما معنى الوليمة إشهار النكاح وإعلانه، إذ قد تهلك البينة، قاله ربيعة، ومالك فى كتاب ابن المواز، فكيفما وقع الإشهار جاز النكاح‏.‏

قال ابن وضاح‏:‏ الحيس التمر ينزع نواه ويخلط بالسويق‏.‏

وقول أنس‏:‏ بعثنى النبى، عليه السلام، فدعوت رجالاً إلى الطعام، فيه أن لصاحب الوليمة أن يبعث الرسل فيمن يحضر وليمته، وإن لم يتول ذلك بنفسه‏.‏

باب مَنْ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ

- فيه‏:‏ أَنَس، مَا رَأَيْتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ على زينب، أَوْلَمَ بِشَاةٍ‏.‏

كل من زاد فى وليمته فهو أفضل؛ لأن ذلك زيادة فى الإعلان واستزادة من الدعاء بالبركة فى الأهل، والمال، وليس فى الزيادة فى الوليمة سرف لمن وجد، وإنما السرف لمن استأصل ماله وأجحف بأكثره، وهذا معنى السرف فى كل حال مثل الطيب من الطعام والثياب للجمعة والأعياد وشبه ذلك‏.‏

باب مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ

- فيه‏:‏ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، أَوْلَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ‏.‏

قد تقدم قبل هذا أن الوليمة إنما تجب على قدر الوجود واليسار، وليس فيها حد لا يجوز الاقتصار على دونه، وهذا يدل على أنها ليست بفرض؛ لأن الفروض من الله ورسوله مقدرة مبينة‏.‏

وفيه‏:‏ إجابة الدعوة إلى الوليمة وإن كان المدعو إليه قليلاً حقيرًا‏.‏

باب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ وَالدَّعْوَةِ

وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ، وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَلا يَوْمَيْنِ - فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسُول، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ، فَلْيَأْتِهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏فُكُّوا الْعَانِىَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِىَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْبَرَاءُ، أَمَرَنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، منها إِجَابَةِ الدَّاعِى‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلِ، دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى عُرْسِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ، وَهِىَ الْعَرُوسُ، أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ‏.‏

اتفق العلماء على وجوب إجابة الوليمة، واختلفوا فى غيرها من الدعوات، فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه‏:‏ يجب إتيان وليمة العرس، ولا يجب إتيان غيرها من الدعوات‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إتيان وليمة العرس واجبة، ولا أرخص فى ترك غيرها مثل النفاس والختان وحادث سرور، من تركها ليس بعاص كالوليمة‏.‏

وقال أهل الظاهر‏:‏ إجابة كل دعوة فيها طعام واجب، واحتجوا بحديث أبى موسى، وحديث البراء، أن النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏أجيبوا الداعى‏)‏، وقالوا‏:‏ هذا عام فى كل دعوة، وتأول مالك والكوفيون قوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏أجيبوا الداعى‏)‏، يعنى فى العرس خاصة، بدليل حديث ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليأتها‏)‏، قالوا‏:‏ وحديث ابن عمر مفسر فيه بيان وتفسير ما أجمل، عليه السلام، فى قوله‏:‏ ‏(‏أجيبوا الداعى‏)‏، والمفسر يقضى على المجمل‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وقد استحبت الوليمة أكثر من يوم، وأولم ابن سيرين ثمانية أيام، ودعى فى بعضها أبى بن كعب، وكره قوم ذلك أيامًا، وقالوا‏:‏ اليوم الثانى فضل، والثالث سمعة‏.‏

وأجاب الحسن رجلاً دعاه فى اليوم الثانى، ثم دعاه فى الثالث فلم يجبه، وفعله ابن المسيب، وقال ابن مسعود‏:‏ نهينا أن نجيب من يرائى بطعامه‏.‏

وقول من أباحها بغير توقيت أولى؛ لقول البخارى، رحمه الله‏:‏ ولم يوقت النبى صلى الله عليه وسلم يومًا ولا يومين، وذلك يقتضى الإطلاق ومنع التحديد إلا بحجة يجب التسليم لها، ولم يرخص العلماء للصائم فى التخلف عن إجابة الوليمة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا كان المجيب مفطرًا أكل وإن كان صائمًا دعا‏.‏

واحتج بحديث ابن سيرين، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دعى أحدكم إلى وليمة فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصل‏)‏، يعنى فليدع‏.‏

وفعله ابن عمر ومد يده، وقال‏:‏ بسم الله كلوا، فلما مد القوم أيديهم، قال‏:‏ كلوا فإنى صائم‏.‏

وقال قوم‏:‏ ترك الأكل مباح وإن لم يصم إذا أجاب الدعوة، وقد أجاب على بن أبى طالب فدعا ولم يأكل‏.‏

وقال مالك فى كتاب ابن المواز‏:‏ أرى أن يجيب فى العرس وحده إن لم يأكل أو كان صائمًا‏.‏

والحجة له حديث سفيان، عن أبى الزبير، عن جابر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دعى أحدكم فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك‏)‏‏.‏